فصل: فصل: قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

وأما قوله‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا‏)‏ ـ وفي رواية‏:‏ ‏(‏وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي‏)‏ ـ ‏(‏فاستغفروني أغفر لكم‏)‏ فالمغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ المغفرة لمن تاب، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ " ‏{‏ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53، 54‏]‏ ، فهذا السياق ـ مع سبب نزول الآية ـ يبين أن المعني لا ييأس مذنب من مغفرة الله، ولو كانت ذنوبه ما كانت، فإن الله/ ـ سبحانه ـ لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب‏.‏ وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب، فإن الله ـ تعالى ـ يغفر ذلك لمن تاب منه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ ، وقال في الآيـة الأخري‏:‏ ‏{‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏73، 74‏]‏ ‏.‏

وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه ـ كما دل عليه القرآن والحديث ـ هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب، كقول بعضهم‏:‏ إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا؛ للحديث الإسرائيلي الذي فيه‏:‏ ‏(‏فكيف من أضللت‏)‏‏.‏

وهذا غلط؛ فإن الله قد بين في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر، الذين هم أعظم من أئمة البـدع ‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ ، قال الحسن البصري‏:‏ انظروا إلى هذا الكرم‏!‏ عذبوا أولياءه وفتنوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة‏.‏

/وكذلك توبة القاتل ونحوه، وحديث أبي سعيد، المتفق عليه، في الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا يدل على قبول توبته، وليس في الكتاب والسنة ما ينافي ذلك، ولا نصوص الوعيد ـ فيه وفي غيره من الكبائر ـ بمنافية لنصوص قبول التوبة، فليست آية الفرقان بمنسوخة بآية النساء؛ إذ لا منافاة بينهما، فإنه قد علم يقينًا أن كل ذنب فيه وعيد فإن لُحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة؛ إذ نصوص التوبة مبينة لتلك النصوص، كالوعيد في الشرك وأكل الربا، وأكل مال اليتيم والسحر، وغير ذلك من الذنوب‏.‏ ومن قال من العلماء‏:‏ توبته غير مقبولة‏.‏ فحقيقة قوله التي تلائم أصول الشريعة أن يراد بذلك أن التوبة المجردة تسقط حق الله من العقاب‏.‏

وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة، وهذا حق‏.‏ ولا فرق في ذلك بين القاتل وسائر الظالمين‏.‏ فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلابد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر مـن الحسنات، حتى إذا استوفي المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسًا‏.‏ ومع هـذا فـإذا شاء الله أن يعـوض المظلوم مـن عنـده فلا راد لفضله، كما إذا شاء أن يغفر مـا دون الشـرك لمن يشاء؛ ولهـذا في حـديث القصاص الذي ركب فيه جابر بن عبد الله إلى عبـد الله بن/ أنيس شهرًا حتى شَافَهَهُ بـه، وقـد رواه الإمام أحمـد، وغيره، واستشهد بـه البخاري في صحيحه، وهو من جنس حديث الترمذي صِحَاحه أو حسانه، قال فيه‏:‏ ‏(‏إذا كـان يـوم القيامـة فـإن الله يجمـع الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفـذهم البصـر‏.‏ ثم يناديهم بصـوت يسمعـه مـن بَعُدَ كما يسمعـه مـن قَرُبَ‏:‏ أنا الملك، أنا الديـان، لا ينبغي لأحـد مـن أهـل الجنـة أن يدخـل الجنـة، ولا لأحـد مـن أهـل النار قِبَلَه مظلمـة، ولا ينبغي لأحـد مـن أهـل النار أن يـدخـل النار ولا لأحد من أهـل الجنـة حتى أقصه منـه‏)‏‏.‏ فبين في الحـديث العـدل والقصاص بين أهـل الجنـة وأهـل النار‏.‏

وفي صحيح مسلم، من حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة‏)‏ ، وقد قال ـ سبحانه ـ لما قال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ ـ والاغتياب من ظلم الأعراض ـ قال‏:‏ ‏{‏أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ ‏.‏فقد نبههم على التوبة من الاغتياب وهو من الظلم‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من كان عنده لأخيه مظلمة في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحل منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم/ولا دينار إلا الحسنات والسيئات‏.‏ فإن كان له حسنات وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه، ثم يلقي في النار‏)‏ أو كما قال‏.‏ وهذا فيما علمه المظلوم من العِوَض، فأما إذا اغتابه أو قذفه ولم يعلم بذلك فقد قيل‏:‏ من شرط توبته إعلامه، وقيل‏:‏ لا يشترط ذلك، وهذا قول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد‏.‏ لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات، كالدعاء له، والاستغفار، وعمل صالح يهدي إليه، يقوم مقام اغتيابه وقذفه‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته‏.‏

وأما الذنوب التي يطلق الفقهاء فيها نفي قبول التوبة، مثل قول أكثرهم‏:‏ لا تقبل توبة الزنديق وهو المنافق، وقولهم‏:‏ إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه تسقط عنه حدود الله، وكذلك قول كثير منهم أو أكثرهم في سائر الجرائم، كما هو أحد قولي الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد، وقولهم في هؤلاء‏:‏ إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام لم تقبل توبتهم ـ فهذا إنما يريدون به رفع العقوبة المشروعة عنهم، أي‏:‏ لاتقبل توبتهم بحيث يخلي بلا عقوبة، بل يعاقب‏:‏ إما لأن توبته غير معلومة الصحة، بل يظن به الكذب فيها، وإما لأن رفع العقوبة بذلك يفضي إلى انتهاك المحارم وسد باب العقوبة على الجرائم، ولا يريدون بذلك أن من تاب من هؤلاء توبة صحيحة فإن الله لا يقبل توبته في الباطن؛ إذ / ليس هذا قول أحد من أئمة الفقهاء، بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عليهمْ وَكَانَ اللّهُ علىمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 17، 18‏]‏ ‏.‏

قال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا لي‏:‏ كل من عصي الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب‏.‏ وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال‏:‏ أنا الله، فلما أدركه الغرق قال‏:‏ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‏.‏ قال الله‏:‏ ‏{‏آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏ ، وهذا استفهام إنكار بَين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، فإن استفهام الإنكار؛ إما بمعني النفي إذا قابل الإخبار، وإما بمعني الذم والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا‏.‏

ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا‏}‏ الآية ‏[‏غافر‏:‏ 83‏:‏ 84‏]‏ ‏.‏ بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده؛ كفرعون وغيره، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ‏)‏، وروي‏:‏ ‏(‏ما لم يعاين‏)‏‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم عرض على عمه التوحيد في مرضه الذي مات فيه، وقد عاد يهوديًا كان يخدمه فعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي أنقذه بي من النار‏)‏، ثم قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏آووا أخاكم‏)‏‏.‏

ومما يبين أن المغفرة العامة في ‏[‏الزمر‏]‏ هي للتائبين أنه قال في سورة ‏[‏النساء‏]‏ ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏ ، فقيد المغفرة بما دون الشرك وعلقها على المشيئة، وهناك أطلق وعمم، فدل هذا التقييد والتعليق على أن هذا في حق غير التائب؛ ولهذا استدل أهل السنة بهذه الآية على جواز المغفرة لأهل الكبائر في الجملة، خلافًا لمن أوجب نفوذ الوعيد بهم من الخوارج والمعتزلة، وإن كان المخالفون لهم قد أسرف فريق منهم من المرجئة، حتى توقفوا في لحوق الوعيد بأحد من أهل القبلة، كما يذكر عن غلاتهم أنهم نفوه مطلقًا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ونصوص الكتاب والسنة مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر/من يعذب، وأنه لا يبقي في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏.‏

النوع الثاني‏:‏ من المغفرة العامة التي دل عليها قوله‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا‏)‏ المغفرة بمعني تخفيف العذاب، أو بمعني تأخيره إلى أجل مسمي، وهذا عام مطلقًا؛ ولهذا شفع النبي صلى الله عليه وسلم في أبي طالب ـ مع موته على الشرك ـ فنقل من غمرة من نار، حتى جعل في ضَحْضَاحٍ من نار، في قدميه نعلان من نار يغلي منهما دماغه‏.‏قال‏:‏ ‏(‏ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏، وعلى هذا المعني دل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏ ، ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عليها مِن دَآبَّةٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏ ، ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 30‏]‏ ‏.‏

 

فصل

وأما قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‏)‏ فإنه هو بين بذلك أنه ليس هو فيما يحسن به إليهم من إجابة الدعوات، وغفران الزلات بالمستعيض/ بذلك منهم جلب منفعة أو دفع مضرة، كما هي عادة المخلوق الذي يعطي غيره نفعًا ليكافئه عليه بنفع، أو يدفع عنه ضررًا؛ ليتقي بذلك ضرره، فقال‏:‏ ‏(‏إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني‏)‏، فلست إذا أخصكم بهداية المستهدي وكفاية المستكفي المستطعم والمستكسي بالذي أطلب أن تنفعوني، ولا أنا إذا غفرت خطاياكم بالليل والنهار أتقي بذلك أن تضروني، فإنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني؛ إذ هم عاجزون عن ذلك، بل ما يقدرون عليه من الفعل لا يقدرون عليه إلا بتقديره وتدبيره، فكيف بما لا يقدرون عليه‏؟‏ فكيف بالغني الصمد، الذي يمتنع عليه أن يستحق من غيره نفعًا أو ضرًا‏؟‏ وهذا الكلام كما بين أن ما يفعله بهم من جلب المنافع ودفع المضار فإنهم لن يبلغوا أن يفعلوا به مثل ذلك، فكذلك يتضمن أن ما يأمرهم به من الطاعات وما ينهاهم عنه من السيئات فإنه لا يتضمن استجلاب نفعهم، كأمر السيد لعبده، أو الوالد لولده، والأمير لرعيته، ونحو ذلك‏.‏ ولا دفع مضرتهم، كنهي هؤلاء أو غيرهم لبعض الناس عن مضرتهم‏.‏

فإن المخلوقين يبلغ بعضهم نفع بعض ومضرة بعض، وكانوا في أمرهم ونهيهم قد يكونون كذلك، والخالق ـ سبحانه ـ مقدس عن ذلك، فبين تنزيهه عن لحوق نفعهم وضرهم في إحسانه إليهم بما يكون من/أفعاله بهم وأوامره لهم، قال قتادة‏:‏ إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم‏.‏

 

فصل

ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن برهم وفجورهم ـ الذي هو طاعتهم ومعصيتهم ـ لا يزيد في ملكه ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غاية ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدني نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية، وينقص ملكه بالمعصية‏.‏ وإذا أعطي الناس ما يسألونه أنفد ما عنده ولم يغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفو وأمر ونهي لرجاء المنفعة وخوف المضرة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا‏.‏ يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئـًا‏)‏، إذ ملكه هو قدرته على التصرف‏.‏ فلا تزداد بطاعتهم ولا تنقص بمعصيتهم، كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم، وتنقص بقلة المطيعين لهم، فإن ملكه متعلق/بنفسه، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء‏.‏

والملك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير، ويراد به نفس التدبير والتصرف، ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كله‏.‏ وبكلٍّ حال، فليس بر الأبرار وفجور الفجار موجبًا لزيادة شيء من ذلك ولا نقصه، بل هو بمشيئته وقدرته يخلق ما يشاء، فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع، كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك، ولو شاء ألا يخلق مع بر الأبرار شيئًا مما خلقه لم يكن برهم محوجًا له إلى ذلك، ولا معينًا له كما يحتاج الملوك ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين‏.‏

 

فصل

ثم ذكر حالهم في النوعين سؤال بره وطاعة أمره اللذين ذكرهما في الحديث، حيث ذكر الاستهداء والاستطعام والاستكساء، وذكر الغفران والبر والفجور، فقال‏:‏ ‏(‏لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته /ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أدخل البحر‏)‏،والخياط والمخيط‏:‏ما يخاط به، إذ الفعال والمفعل والمفعال من صيغ الآلات التي يفعل بها، كالمسعر، والمخلاب، والمنشار‏.‏ فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا ـ وهم في مكان واحد وزمان واحد ـ فأعطي كل إنسان منهم مسألته، لم ينقصه ذلك مما عنده إلا كما ينقص الخياط ـ وهي الإبرة ـ إذا غمس في البحر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لم ينقص مما عندي‏)‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يدل على أن عنده أمورًا موجودة يعطيهم منها ما سألوه إياه، وعلى هذا فيقال‏:‏ لفظ النقص على حاله؛ لأن الإعطاء من الكثير، وإن كان قليلا، فلابد أن ينقصه شيئًا مـا‏.‏ ومـن رواه‏:‏ ‏(‏لم ينقص مـن ملكي‏)‏ يحمل على ما عنده، كما في هذا اللفظ؛ فإن قولـه‏:‏ ‏(‏مما عنـدي‏)‏ فيـه تخصيص ليس هو في قوله‏:‏ ‏(‏من ملكي‏)‏‏.‏ وقد يقال‏:‏ المعطي؛ إمـا أن يكـون أعيانًا قائمـة بنفسها، أو صفات قائمـة بغيرها‏.‏ فأما الأعيان فقد تنقل من محل إلى محل، فيظهر النقص في المحل الأول‏.‏ وأما الصفات فلا تنقل من محلها، وإن وجـد نظـيرها في محـل آخـر، كما يوجـد نظير علم المعلم في قلب المتعلم مـن غير زوال علم المعلم، وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى/ الثاني‏.‏ وعلى هـذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئًا، وهي من المسؤول كالهدي‏.‏

وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات ألا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول؛ كاللون الذي ينقص، وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على حمى المدينة أن تنقل إلى مَهيَعَة وهي الجحفة، وهل مثل هذا الانتقال بانتقال عين العرض الأول، أو بوجود مثله من غير انتقال عينه‏؟‏ فيه للناس قولان‏:‏ إذ منهم من يجوز انتقال الأعراض، بل من يجوز أن تجعل الأعراض أعيانًا، كما هو قول ضرار والنجار وأصحابهما، كبرغوث وحفص الفرد، لكن إن قيل‏:‏ هو بوجود مثله من غير انتقال عينه فذلك يكون مع استحالة العرض الأول وفنائه، فيعدم عن ذلك المحل ويوجد مثله في المحل الثاني‏.‏

القـول الثاني‏:‏ أن لفـظ النقص هنا كلفـظ النقص في حـديث موسـي والخضـر الذي في الصحيحين من حديث ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه‏:‏ ‏(‏أن الخضر قـال لموسي ـ لما وقـع عصفـور على قارب السفينـة فنقـر في البحـر ـ فقال‏:‏ يـا موسي، مـا نقص علمي وعلمـك مـن علم الله إلا كما نقص هـذا العصفور مـن هـذا البـحر‏)‏‏.‏ ومـن المعلـوم أن نفـس علم الله القائم بنفسـه لا يـزول مـنه/شيء بتعلـم العباد، وإنما المقصـود أن نسـبة علمي وعلـمك إلى علـم الله كنسـبة مـا علق بمنقار العصفـور إلى البحر‏.‏

ومن هذا الباب كون العلم يورث، كقوله‏:‏ ‏(‏العلماء ورثة الأنبياء‏)‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏ ، ومنه توريث الكتاب أيضًا كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ ، ومثل هذه العبارة من النقص، ونحوه تستعمل في هذا، وإن كان العلم الأول ثابتًا، كما قال سعيد بن المسيب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعًا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه، وقال‏:‏ نَزَفْتَنِي يا أعمى‏!‏ وإنْزَاف القليب، ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقي فيه شيء‏.‏ ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يَزُلْ علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب، لكن قد يقال‏:‏ التعليم إنما يكون بالكلام، والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه؛ ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏

ويقال‏:‏ قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا، فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج ـ كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته‏.‏ ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه وكلمه فارقه أمور قامت به من حركات وأصوات،/بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفًا، ومما يقوي هذا المعني أن الإنسان، وإن كان علمه في نفسه، فليس هو أمرًا لازمًا للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل، وقد ينساه ثم يذكره، فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخري‏.‏ وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تَكِلُّ النفس وتعي، حتى لا يقوي على استحضاره إلا بعد مدة، فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالمًا بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع، ومن قال هذا يقول‏:‏ كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولًا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو ـ سبحانه ـ منزهًا عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه، أو عن زوال علمه عنه، لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم‏.‏

وتحقيق الأمر أن المراد ما أخذ علمي وعلمك من علم الله، وما نال علمي وعلمك من علم الله، وما أحاط علمي وعلمك من علم الله، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ، إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر، أي‏:‏ نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبه به جسمًا ينتقل من محل إلى محل ويزول/ عن المحل الأول، وليس المشبه كذلك؛ فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر‏)‏، فشبه الرؤية بالرؤية، وهي، وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها، لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي، فكذلك هنا شبه النقص بالنقص، وإن كان كل من الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبه به، ليس مثل الناقص والمنقوص، والمنقوص منه المشبه به‏.‏

ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم، بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث، يقتبس منه كل أحد، ويأخذون ما شاؤوا من الشهب، وهو باق بحاله، وهذا تمثيل مطابق، فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارًا من جنس تلك النار، وإن كان قد يقال‏:‏ إنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية، كذلك المتعلم يجعـل في قلبـه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم؛ ولهذا قال على ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ العلم يزكو على العمل، أو قال‏:‏ على التعليم، والمال ينقصه النفقة‏.‏ وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏(‏مما عندي‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من ملكي‏)‏ هو من هذا الباب، وحينئذ فله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون ما أعطاهم خارجًا عن مسمي ملكه ومسمي ما/ عنده، كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسي والخضر‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء، وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده، ولكن نسبته إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة‏.‏ ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روي هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر مرفوعًا، فيه‏:‏ ‏(‏لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، ورطبكم ويابسكم، سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني، ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جَوَادٌ ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له‏:‏ كن فيكون‏)‏، فذكره ـ سبحانه ـ أن عطاءه كلام، وعذابه كلام، يدل على أنه هو أراد بقوله‏:‏ ‏(‏من ملكي‏)‏ و‏(‏مما عندي‏)‏ أي‏:‏ من مقدوري، فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم، والله أعلم‏.‏

ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر‏:‏ ‏(‏لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا إلا كما ينقص البحر‏)‏، وهذا قد يقال فيه‏:‏ إنه استثناء منقطع، أي‏:‏ لم ينقص من ملكي شيئًا، لكن يكون حاله حال هذه النسبة، وقد يقال‏:‏ بل هو تام، والمعني على ما سبق‏.‏

 

/فصل

ثم ختمه بتحقيق ما بينه فيه من عدله وإحسانه، فقال‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلُومَنَّ إلا نفسه‏)‏، فبين أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانًا يستحق به الحمد؛ لأنه هو المنعم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها، ثم إحصائها، ثم توفية جزائها‏.‏ فكل ذلك فضل منه وإحسان؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو، وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين ـ كما تقدم بيانه ـ فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض، الذي يكون عدلًا لا فضلا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض فاستحق المعاوضة، وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسن إليه؛ ولهذا لم يكن المتعاوضان ليخص أحدهما بالتفضل على الآخر لتكافئهما، وهو قد بين في الحديث أن العباد لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، بل هو الذي أَحَقَّ الحق على نفسه بكلماته، فهو المحسن بالإحسان وبإحقاقه/ وكتابته على نفسه، فهو في كتابة الرحمة على نفسه، وإحقاقه نصر عباده المؤمنين، ونحو ذلك محسن إحسانًا مع إحسان‏.‏

فليتدبر اللبيب هـذه التفاصيل التي يتبين بها فصل الخطاب في هـذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب، فمن بَيْن مُوجبٍ على ربه بالمنع أن يكون محسنًا متفضلًا، ومن بين مُسَوٍّ بين عدله وإحسانه وما تنزه عنه من الظلم والعدوان، وجاعل الجميع نوعـًا واحدًا‏.‏ وكل ذلك حَيْدٌ عن سنن الصراط المستقيم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏.‏

وكما بَيَّنَ أنه محسن في الحسنات، متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها، بين أنه عادل في الجزاء على السيئات، فقال‏:‏ ‏(‏ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏ كما تقدم بيانه في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏ ‏.‏ وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري؛ عن شداد بن أوس؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏سيد الاستغفار أن يقول العبد‏:‏ اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏، ففي قوله‏:‏ ‏(‏أبوء لك بنعمتك على‏)‏ اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وأبوء بذنبي‏)‏/اعتراف منه بأنه مذنب، ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورًا لربه مستغفرًا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير، وغفران الشر من الشكور الغفور، الذي يشكر اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلل‏.‏

وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفـوسهم، فشـرهم الذي إذا أسـاء أضـاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القـدر سـبق بذلك، وأنـه لا خروج له على القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه، ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسري‏.‏ وهذا ليس مـذهب طائفة من بني آدم، ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين، الذين لا حفظوا حـدود الأمـر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر، كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي‏:‏ أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري‏.‏ أي مذهب وافق هواك تمذهبت به‏.‏

وخير الأقسام، وهـو القسم المشـروع، وهـو الحق الذي جاءت به الشريعة‏:‏ أنه إذا أحسـن شكر نعمـة الله عليه وحمده؛ إذ أنعم عليه بأن جعله محسنًا ولم يجعله مسيئًا، فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته وجميع حركاته وسكناته إلى ربه، ولا حول ولا قوة إلا به، فلو لم يهده لم يهتد، كما قال أهل الجنة‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ ، وإذا /أساء اعترف بذنبه، واستغفر ربه وتاب منه، وكان كأبيه آدم الذي قال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ ، ولم يكن كإبليس الذي قال‏:‏ ‏{‏بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39، 40‏]‏ ‏.‏ ولم يحتج بالقدر على ترك مأمور ولا فعل محظور، مع إيمانه بالقدر خيره وشره، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ونحو ذلك‏.‏

وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله في قوله في هذا الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏، ولكن بسط ذلك وتحقيق نسبة الذنب إلى النفس مع العلم بأن الله خالق أفعال العباد فيه أسرار ليس هذا موضعها، ومع هذا فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78، 79‏]‏ ، ليس المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي، كما يظنه كثير من الناس حتى يحرف بعضهم القرآن ويقرأ‏:‏‏{‏فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ ، ومعلوم أن معني هذه القراءة يناقض القراءة المتواترة، وحتى يضمر بعضهم القول على وجه الإنكار له، وهو قول/الله الحق، فيجعل قول الله الصدق الذي يحمد ويرضي قولًا للكفار يكذب به ويذم، ويسخط بالإضمار الباطل الذي يدعيه، من غير أن يكون في السياق ما يدل عليه‏.‏

ثم إن من جهل هؤلاء ظنهم أن في هذه الآية حجة للقدرية واحتجاج بعض القدرية بها؛ وذلك أنه لا خلاف بين الناس في أن الطاعات والمعاصي سواء من جهة القدر‏.‏ فمن قال‏:‏ إن العبد هو الموجد لفعله دون الله، أو هو الخالق لفعله، وأن الله لم يخلق أفعال العباد، فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية‏.‏

ومن أثبت خلق الأفعال وأثبت الجبر أو نفاه، أو أمسك عن نفيه وإثباته مطلقًا، وفصل المعني أو لم يفصله ـ فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية‏.‏ فتبين أن إدخال هذه الآية في القدر في غاية الجهالة؛ وذلك أن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها المسار والمضار دون الطاعات والمعاصي، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏ ، وهو الشر والخير في قوله‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ ‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 10‏]‏ ،وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94، 95‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 131‏]‏ ‏.‏

فهذه حال فرعون وملئه مع موسي ومن معه، كحال الكفار والمنافقين والظالمين مع محمد وأصحابه، إذا أصابهم نعمة وخير قالوا‏:‏ لنا هذه ، أو قالوا‏:‏ هذه من عند الله، وإن أصابهم عذاب وشر تطيروا بالنبي والمؤمنين، وقالوا‏:‏ هذه بذنوبهم، وإنما هي بذنوب أنفسهم لا بذنوب المؤمنين، وهو ـ سبحانه ـ ذكر هذا في بيان حال النَّاكِلِين عن الجهاد الذين يلومون المؤمنين على الجهاد، فإذا أصابهم نصر، ونحوه قالوا‏:‏ هذا من عند الله، وإن أصابتهم محنة قالوا‏:‏ هذه من عند هذا الذي جاءنا بالأمر والنهي والجهاد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ‏}‏ ، إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عليهمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ علينَا الْقِتَالَ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 71‏:‏ 78‏]‏ ، أي هؤلاء المذمومين ‏{‏يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ ، أي بسبب أمرك ونهيك،/قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78، 79‏]‏ ، أي‏:‏ من نعمة ‏{‏فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ ، أي‏:‏ فبذنبك‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 30‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 36‏]‏ ‏.‏

وأما القسم الثالث في هذا الباب‏:‏ فهم قوم لبسوا الحق بالباطل، وهم بين أهل الإيمان ـ أهل الخير ـ وبين شرار الناس وهم الخائضون في القـدر بالباطل، فقوم يرون أنهم هم الذين يهدون أنفسهم ويضلونها، ويوجبون لها فعل الطاعة وفعل المعصية، بغير إعانة منه وتوفيق للطاعة، ولا خذلان منه في المعصية‏.‏ وقوم لا يثبتون لأنفسهم فعلًا ولا قدرة ولا أمرًا‏.‏

ثم من هؤلاء من يَنْحَلُّ عن الأمر والنهي فيكون أكفر الخلق، وهم في احتجاجهم بالقدر متناقضون؛ إذ لا بد من فِعْلٍ يحبونه وفعل يبغضونه، ولابد لهم ولكل أحد من دفع الضرر الحاصل بأفعال المعتدين، فإذا جعلوا الحسنات والسيئات سواسية لم يمكنهم أن يذموا أحدا، ولا يدفعوا ظالمًا، ولا يقابلوا مسيئًا، وأن يبيحوا للناس من أنفسهم كل ما يشتهيه مُشْتَهٍ، ونحو ذلك من الأمور التي لا يعيش/عليها بنو آدم؛إذ هم مضطرون إلى شرع فيه أمر ونهي أعظم من اضطرارهم إلى الأكل واللباس‏.‏

وهذا باب واسع لشرحه موضع غير هذا‏.‏ وإنما نبهنا على ما في الحديث من الكلمات الجامعة والقواعد النافعة بنُكَتٍ مختصرة، تنبه الفاضل على ما في الحقائق من الجوامع والفوارق، التي تفصل بين الحق والباطل في هذه المضائق، بحسب ما احتملته أوراق السائل‏.‏ والله ينفعنا ـ وسائر إخواننا المؤمنين ـ بما علمناه، ويعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، وأستغفر الله العظيم لي ولجميع إخواننا المؤمنين‏.‏

والحمد لله رب العالمين‏.‏ وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا‏.‏